النظام الدولي
ـــــــــــــــــــ
الفصل الأول
نشأة وتطور النظام الدولي
المبحث الأول/ نشؤ وتطور النظام الدولي
المبحث لثاني / طبيعة ومفهوم النظام الدولي
المبحث الثالث / أثر تطور النظام الدولي على مفهوم السيادة
المبحث الأول
نشؤ وتطور النظام الدولي
فكرة التنظيم الدولي فكرة قديمة راودت المفكرين والحكام منذ اقدم العهود اذ يمكن العثور على جذورها عند الشعوب القديمة وكذلك في العصور التاريخية التالية. ومع ذلك لم تظهر الفكرة الى الواقع العملي اذ لم تكن قد كتملت لها الأسباب الموجبة لوضعها موضع التنفيذ (1)، وجوهر فكرة التنظيم الدولي يكمن في أن العلاقات بين الدول تكون أكثر سلمآ وأعمق أمنا وأشمل تعاونآ اذ كانت هذه العلاقات تجرى من خلال قنوات منتظمة أى اجهزة منظمة ، والبديل لايمكن أن يكون الا سيادة لقانون الغاب سواء تمثل ذلك في فوضى عالمية أو في أمبراطورية عالمية حيث أن العالم تردى بين هاتين الصورتين لهذا البديل دون أن يتمكن أيهما من تحقيق السلم أو التعاون.
هذا التنظيم الدولي وهو يعني حل المشاكل وتحقيق التعاون لا يتصور قيامه بهذا الدور على وجه ملائم وفعال الا بوجود هيئة أو منظمة دائمة يتم من خلالها وعن طريقها العمل على تحقيق ذلك . وانطلاقآ من هذا فأن لمنظمة الدولية هي مقتضى جوهر فكرة التنظيم الدولي بالاضافة الى أنها تقدم لنا الدليل لخارجي أو الظاهر على وجود هذا التنظيم . ومع ذلك فاذا كانت المنظمة الدولية ليست غاية في ذاتها بقدر ما هي وسيلة لتحقيق التنظيم لدولي لاأنه لا يتصور تحقيق ذلك بدون وجود منظمة أو منظمات دولية . وهكذا تصبح الوسيلة غاية كما هو الحال تماما داخل الدول حيث لا يتصور تحقيق الأمن والعدل داخل أي اقليم ما لم يكن هناك تنظيم ما في هذا الاقليم (2).
يكمن مضمون التنظيم لدولي في الحيلولة دون تغيير الواقع الدولي، او الاخلال بأوضاعه، والعلاقات فيه، او تبديلها بما يلائم مصالح دولة ما، وذلك باتخاذ اجراءات دولية جماعية ضاغطة، او مانعة لمحاولات هذه الدولة او مجموعة الدول. كما ان نظام الامن الجماعي ينكر استعمال وسائل العنف المسلح لحلّ التناقضات والخلافات القائمة في مصالح الدول، وسياساتها، بل يؤكد على استعمال الطرق والأساليب السلمية.
ولما كانت القوة ما تزال هي الأساس في تحديد إطار الاستراتيجيات للدول، وهي المحرك لأنماط العلاقات الخارجية وتقرير طبيعة اهداف سياساتها، (وباعتبار ان امكانات الدول في مجال القوة ليست متساوية في الكم والكيف)، فإن الأقوى كان وما زال يستغل هذه القوة لفرض مصالحه على الآخرين من دون اعتبار لمصالحهم، وبغضّ النظر عما يسببه من أضرار لهذه المصالح، من هنا كانت فلسفة «الحق للقوة» (Might makes right) هي السائدة في المجتمع الدولي منذ القديم. وحتى اليوم، وعلى الرغم من النظريات المثالية الحالمة، فإن القوة هي الواقع في التعامل الدولي، اما الاخلاقيات فتقع في مكان ما بينهما.
انطلاقاً من هذا الواقع ونتيجة الحروب التي لم تتوقف عبر التاريخ، قام منظرو السياسة الدولية بوضع النظريات لإقامة السلام العالمي، ونظام الامن الجماعي لردع المعتدي مهما كان قوياً او ضعيفاً، لتمكين المجتمع البشري من العيش بسلام وكرامة، وفق مبادئ واسس تلتزم باحترامها الدول كافة، وعلى قدم المساواة كبيرها وصغيرها، فهل تحقق ذلك فعلاً؟!
_____________________________________
1. ترجمة د.حسن صعب باسم:تكوين الدولة.بيروت1966 دار العلم للملايين ص.465 وما بعدها.
2. د.محمد عزيز شكري:التنظيم الدولي العالمي بين النظرية والواقع،الطبعة الأول1973.دار الفكر ص.49 هامش رقم 2.
يعتبر منظرو السياسة الدولية ان اعلى منافع البشرية وخيرها يوجد في سيادة القانون: القانون الدولي، والقانون الخاص، وضرورة تطبيق القوانين التي اتفق عليها، ولكن الواقع التطبيقي، والممارسة الفعلية في العلاقات الدولية يسمح بطرح التساؤل: أي قانون؟ وقانون من؟ فالقانون ليس شيئاً مجرداً، كما لا يمكن فهمه بمعزل عن مكوناته السياسية التي أوجدته، ولا عن المصالح السياسية والاقتصادية التي يخدمها، ذلك ان القوانين الدولية والتنظيم الدولي، والنظام الدولي المنبثق عنها، انما هو تعبير عن ارادة، ورغبات، ومصالح القوى التي صاغت هذا القانون، ووضعت قواعده، وهو يعمل في الحقيقة، وبنسبة كبيرة من الواقع، لخدمتها، وتحقيق أهدافها.
هكذا فان هذا التنظيم الدولي لم يتم طفرة واحدة ، ولكنه- مثله في ذلك مثل كل التنظيمات الاجتماعية الأخرى ، أخذ صورة التطور . واذا كان هذا التطور بطيئا غالبا الا أنه لا يزال مستمرا.
وعليه فان نظرة سريعة الى الفكر السياسي في القرون الماضية تظهر الملامح العامة التي نظر اليها بعض المفكرين لرؤيتهم للنظام العالمي الامثل والسبل الآيلة الى سعادة البشر ورفاه حياتهم وعلاقاتهم ، وان كان تضارب الافكار والمعتقدات شيئا ظاهرا وبارزا بين هذه الافكار الا ان كل منها سعت جاهدة الى اظهار نفسها البديل الملائم والصحيح للحياة الكريمة والرقي والازدهار الذي يحلم فيه جميع بنو البشر .
وبناء على ذلك سنتعرض في الفقرة التالية وفي أيجاز شديد لأهم ما يميز هذه الحقبة التاريخية خلال عصورها المختلفة مركزين في بحثنا على الجوانب التاريخية لفكرة التنظيم الدولي أما الأحداث والتطورات القانونية فسيتم التنوية عنها في موضوع لاحق عند الحديث عن تطور القواعد القانونية الدولية في العصور الحديثة.
لقد مر النظام العالمي بالعديد من التحولات المتداخلة خلال العصور المختلفة التي قسمها علماء التاريخ الى ثلاث عصور رئيسية: العصر القديم _ العصور لوسطى _العصر الحديث ،حيث تدرجت ملامح النظام العالمي من الأنظمة القبلية الى الأنظمة الامبراطورية ثم ظهور الدويلات والوحدات السياسية وصولآ الى الدولة القومية في العصر الحديث وكانت هم سمات النظم العالمي في هذه العصور فيما يلي :
أولآ : في العصر القديم 5500 ق.م __ 500 م
تمتد هذه الحقبة من بداية التاريخ المعروف وحتى سقوط الامبراطورية الرومانية عام 476 م، ويذكر المؤرخون القدماء اكثر من دليل على وجود علاقات دولية في العصور القديمة تحكمها بعض القواعد، كمعاهدات الصلح التي انهت الكثير من الحروب، الا انها كانت ضيقة ولا تشمل الا الشعوب المتجاورة، التي كانت تشن الحروب على بعضها البعض، وما كان يتطلبه ذلك من عقد تحالفات ومعاهدات صلح. لقد تمّ العثور على عدة نصوص لبعض المعاهدات القديمة، من بينها معاهدة للتحالف و التعاون وتسليم المجرمين السياسيين ابرمت في القرن الثالث عشر قبل الميلاد ( حوالي 1292 ق.م. ) بين «رمسيس الثاني» فرعون مصر و«خاتيسار» ملك الحثيين وأطلق عليها "المعاهدة اللؤلؤة ".(1) كذلك معاهدات صداقة وعدم اعتداء بين بعض بلدان الشرق القديمة. كما تبيّن للباحثين في تاريخ الشرق القديم ان العلاقات بين الشعوب القديمة لم تكن مقتصرة على ميادين القتال والقيام بالحرب او الغزو، بل ان هذه الشعوب عرفت الكثير من العلاقات السلمية المستقرة، وذلك من خلال اتفاق او معاهدة بين الاطراف صاحبة العلاقة، كما ان هذه الكيانات كانت تعرف كيفية القيام بالوساطة والتحكيم كوسيلة لحل المنازعات بينها سلمياً.
أولا : الشرق القديم
دول العراق :
وصل العرب القدامى بلاد ما بين النهرين في فترة مبكرة من الألف الرابع قبل الميلاد وشرعو في أعمار وبناء مجتمعاتهم بناء تنظيميآ متميزآ ، يعتبر بحق صورة مبكرة للدولة التي مثلتها _ آنذاك _ الدولة الآكادية ، لما عرفت به من نظم راسخ وجيش قوي مكن لها من بسط سيادتها على رقعة جغرافية عظيمة . (2) وقد كانت الفترة السابقة على بناء الدولة الموحدة من قبل سرغون الأول _ حافلة بعدد من دويلات المدن ، ولعلها أول دول _ المدن لتي عرفها التريخ ، الذي حفظ لنا معاهدة الصلح بين دولة _ مدينة "لكش" ودولة _ مدينة "أأوما" العراقيتين في عام 3100 قبل الميلاد . (3)
_____________________________________________
1- علي صادق ابو الهيف .القانون الدولي العام.منشأة المعارف بالاسكندرية مصر ، الطبعة الحدية عشرة 1975
2- د.عبد العزيز صالح، الشرق الأدنى لقديم،الجزء الأول مصر والعراق،مكتبة الأنجلو المصرية 1990،ص.478 وم بعد
3- د.عصام العطية،القانون الدولي العام ،مطبعة جامعة بغداد ، 1983 الطبعة الثانية ص.153
وبعد أن دالت الدولة الآكادية ، تعاقبت من بعدها دول ، لعل أكثرها صيتآ الدولة البابلية الأولى التي أرسى دعائمها _في عام 2460 قبل الميلاد ، أول ملوكها "سأموابي" ثم تخذ خليفته " سامو ليلا " بابل عاصمة لها . وقد بسطت تلك الدولة نفوذها على كامل أرض العرق والشام ، وغدت بابل عاصمة البر الغربي لآسيا كلها ، فلا يثبت أمير على امارته الا من بعد أن يشخص اليها ، وبلغت أوج مجدها في عهد " حمورابي" سادس ملوكها، وصاحب أقدم مدونة تشريعية عرفها التاريخ . (1)
وقد تضمنت مدونة " حموربي" 282 مادة ، وقد وجدت منقوشة بالحرف المسماري على مسلة من الحجر الأسود الصلب ، تم أكتشافها في عام 1901 م، وقد شملت تلك المواد على تنظيم راق للأحول الشخصية والعقود المدنية والتجارية ووسائل الاثبات والمسائل الجنائية وسوها.
وخلف من بعد " حموربي" خلف لم يحفظ للدولة سيادتها ولا وحدتها ، فدالت الدولة البابلية الأولى ، وتقلبت الأمور في بلاد الرافدين كثيرآ ، قبل أن تنهض دولة عربية قوية أخرى هي الدولة الآشورية ، التي ازدهرت لما أشتهرت به من قوة وتنظيم مكن لها من بسط سيادتها على كامل التراب البابلي ، غير أن ظروفآ تضافرت وعجلت بأنهيارها أمام الدولة الفارسية بقيادة كورش في عام 538 قبل الميلاد. (2)
دولة مصر القديمة:
دولة مصر القديمة والتي تطوي في جنباتها ثلاث ألاف عام كانت تضم ثلاث دول :القديمة والوسطى والحديثة ، تعاقبت على الحكم فيها ثلاثون أسرة حاكمة ، وقد تركت ورائها شواهد شاخصة تحفل بثروة ضخمة من المصادر التاريخية سواء تلك المنقوشة على جدران القصور والمعابد ، أو المدونة على أوراق البردي في مختلف عصورها .(3)
أن الدولة المصرية القديمة، لما تمتعت به من قوة ورقي ، قد بلغت مكانة رفيعة أعطتها دورآ فاعلآ بين الدول القائمة أنذك ، ولا سيما في عهد رمسيس الثاني الذي أنهى عهدآ طويلآ من النزاع مع الحيثيين بسابقة مهمة في تاريخ العلاقات الدولية في العالم القديم ، هي المعاهدت لتي وقعها مع ملك الحثيين Hittites لتنهي حالة الحرب بينهما ، بل لتقودهم الى التعاون والتحالف سويآ ، كما تضمنت مبادئ هامة أخرى ، وقد وقعت عام 1292 ق.م. وسميت" اللؤلؤ".(4)
دولة الشام القديمة:
أهم ما تميزت به ، قيامها على نظام الدولة _المدنية قبل اليونان ومدنها _ وأن كان بعضها قد اتسع ليغدو مملكة مترامية الأطراف كمملكة تدمر.(5) . وقد أشتهر الفينقيون ، وهم من العرب الكنعانيين سكان بلاد الشام القدماء ، وكانوا يسمون أنفسهم بهذا الأسم الأخير ، أطلقه عليهم اليونانيون وهو مشتق من الكلمة اليونانية phoinix بمعنى النخلة ، أو من الجذر Phoinos بمعنى الأحمر بسبب اللون الأرجواني الأصيل بالبلاد ، أو بسبب لون بشرتهم البرونزية ،اذا ما قيست بلون البشرة اليونانية . (6)
وقد أشتهر الفينقيون طوال التاريخ القديم بشجاعتهم في ارتياد عالم البحار ، وتأسيس ركائز استراتيجية ، مكنت لهم من السيادة على البحر الأبيض المتوسط ، كانت أهمها على وجه الاطلاق " قرطاجة " التي انتقلت اليها لسيادة الفينيقية ، بعد أنكسار الدولة الكنعانية الأم على يد نبو خذ نصر _ الملك الآشوري _ما بين (604 _ 561 ) قبل الميلاد .
________________________________________
1- جرجي زيدان ،ا لعرب قبل الاسلام دار الهلال، ص.55 ، وأيضا : د. شفيق الجراح ، المؤسسات الحقوقية في بابل ، مطبعة جامعة دمشق ، 1987 . ص. 36
2- انظر : جرجي زيدان ، مرجع سابق ، ص. 58 وما بعدها
3- لمزيد من التفاصيل أنظر:
SMITH ;H.S;&Hall ;R.M; Ancient centers of Egyptian Civilizations;The Kensal press;UK: 1983.p 10.
4- Voir.NGUYEN Quc Dind et autre, Droit intrnational public, 3eme edition. L.G.D.J. paris 1987 . p.36 .
5- أنظر : جرجي زيدان ، العرب قبل الاسلام مرجع سابق ، ص.65 وما بعدها
6- ج.كونتتو . الحضارة الفينيقية ، ترجمة د. محمد عبد الهادي شعيرة ، مراجعة د. طه حسين ، الهيئة المصرية العامة للكتاب،1997 ص.44 .
والواقع أن الدولة الكنعانية لم تنته نهائيآ _ آنذلك _ بل يمكن القول بأنها خضعت لنوع من الانتداب أو الحماية ، بدليل أن الملك الأشوري اكتفى بازحة الملك "بابل " واحلال آخر من أنصاره محله، ثم تحولت بعد ذلك الى النظام الجمهوري برئاسة قاض يلقب " بالسوفيت"(1)
دولة المغرب العربي:
قد يبدو غريبآ أن تسقط الدولة " الفينقية" في المشرق ، ثم تعود الى الحياة في المغرب ، بذلك الفرع العنيد " قرطاجة" التي تأسست حولي عام 814 ق. م. _ قبل أن تؤسس روما بما يناهز الستة عقود في عام 756 ق.م. وحافظت على ارتباطها الوثيق بالوطن الأم ، الى أن وقعت تحت السيادة الآشورية ، فآلت اليها المكانة الدولية التي كانت تشغلها في الدولة الأم ، بما في ذلك السيدة على الركائز الاستراتيجية في البحر الأبيض المتوسط ، فكان لابد من الاصطدام مع اليونانيين ، ثم مع الرومان الذين أرادو فرض سيادتهم على العالم ، وكانت الحروب الفونية ( أي الفينقية) بين روما وقرطاجة أطول الحروب في التاريخ.(2)
وتنقسم الحروب الفونية الى ثلاث مراحل ابتدأت عم 268 ق.م. ، وأشهرها الحرب الثانية (219—202 ق.م.)، وفيها عبر القائد القرطاجي الشهير هانيبغل الى أسبانيا ، عبر بلاد الغال وانتصر على الرومان في موقعة كان في عام 216 ق.م. ثم أجتاز جبال الألب ، وكان على مشارف روما عندم علم بهزيمة شقيقه أزدروبال ، فاضطر للتراجع والدفاع عن الوطن ، وكن لانكسار في موقعة زاما . وانتهت تلك الحروب .(3)
اليونان القديمة:
استوطن الاغريق شبه الجزيرة اليونانية حوالي 1500 ق.م. ، وقد عرفت المدن اليونانية قبل توحيدها على يد ( فيليب المقدوني) نظام الحياد وحرمة السفراء وافتداء أسرى الحرب والتحكيم فيما بينها.(4) الا أنها في علاقتها مع الشعوب الأخرى ، كانت الحروب وتقوم بالفتوحات انطلاقا من اعتقادها بالتفوق على باقي البشر ، وفي ذلك يقول أرسطو : " لا يجوز لمدينة يونانية أن تمارس سياسة لغزو والفتح ضد مدينة يونانية أخرى، لأن اليونانيين أحرارآ في الطبيعة " (5)
ويقول أيضآ في كتابه " السياسة" : ان المدن اليونانية لها الحق بأن تتقدم معآ لفتح أراضي الشعوب البربرية ، وهذا الحق يصبح واجبآ ، بمجرد أن يصبح مستندآ لى قوة عسكرية تعطي الأمل بالنصر" (6) ، ولقد تحقق ذاك لأمل على يدي الاسكندر تلميذ أرسطو ، الذي أنشأ امبراطورية كبرى ، بيد نتهت بموته عام 333 ق.م. واقتسم قواده الثلاثة ( أنتيغون _ بطليموس _ سلوقس ) امبراطوريته الواسعة .(7)
وتميزت الدولة اليونانية القديمة _ التي كرسها الفكر الغربي أصلا من الأصول الرئيسة لمنظومتة الفكرية _ بنهوضها على تراتيبية طبقية ، أرست بدورها ركائز المعضلة السياسية الكبرى التي واجهت الفكر الاغريقي آنذك ، وهي ضمان المكان الملائم لكل طبقة في المكان الصالح لها في المجتمع. ولاشك أن الأساس التميزي لممارسة حقوق المواطنة يقدح في الاعتبار القائل بصدقية " ديمقراطية الاغريق".
___________________________________
1- أنظر : ج. كونتو ، مرجع سابق ، ص.434
2- أنظر: ه. ج. ويلز، مزجز تريخ العالم، ترجمة: د.عبد العزيز توفيق جاويد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثانية 1999 ، ص 140 ومابعدها
3- أنظر : ج. كونتو ، المرجع السابق ، ص 112
4- د. غضبان مبروك ، المجتمع الدولي : الأصول والتطور والأشخاص ، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر ، الجزائر، 1994 ، ص 34
5- نظر : د. غضبان مبروك ، المرجع السابق ص 34 _ 35
6- د. بن عامر تونسي ، قانون المجتمع الدولي المعاصر ، ديوان المطبوعات الجامعية الجزائر ، 1988 ، ص 12
7- أ نظر : ج . كونتو ، مرجع سابق ، ص 99
وفي المقابل عرفت العلاقات بين المدن اليونانية ، والتي بلغت أوجها مع الديمقراطية الأثينية ، قدرا كبير من الاستقرار ، مرده الخصائص المشتركة للمجتمع الهيليني من عرق وثقافة وحضارة ودين ، والتي كانت تجمع هذه المدن في رباط روحي واحد ، يعززه شعور واضح بالعداء لغير اليونانيين . ولهذا ازدهرت العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري بين المدن اليونانية ، وأمكن الحديث عن "قانون دولي اقليمي هيليني ".(1) لحكم العلاقات فيما بين المدن المذكورة .
وقد أسهم تطور التجارة الدولية في ذلك الوقت ، في عقد مجموعة من الاتفاقات الثنائية لحماية أشخاص وأموال التجار الأجانب . وابتدعت اليونان مؤسسة البروكسيني Proxenie التي يعدها البعض أساس الحماية القنصلية التي نعرفها الآن ، والتي يقوم أحد وجهاء المدينة بمقتضاها بحماية أشخاص الأجانب وأموالهم . كما ابتدعت التحكيم لتسوية المنازعات بين المدن اليونانية . وقد تم حصاء ما مجموعه 110 تحكيمات خلال خمسة قرون تنتهي مع الغزو المكدوني في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد .
وكثيرآ ما انتهت حالة التهديد بالحرب بين المدن اليونانية بفترات سلم تم ترتيبها في معاهدات دولية معروفة (مثل معاهدت سلام الثلاثين عاما بين سبارطة وأثينا عام 446 ق.م. ، ومعاهدت سلام الخمسين عاما فيما بينهما عام 431 ق.م.) . وعرفت اليونان القديمة بعض قوانين وأعراف الحرب : قاعدة أعلان الحرب ، و " أنسنة " الحروب عن طريق المعاملة الانسانية للأسرى ، وحرمة المعابد الدينية في بلاد العدو ، وحرمة رجال الدين . كما عرفت محاولات اولية لاقامة نوع من التنظيمات الدولية التي تقدم على اسس دينية ، حيث يجتمع ممثلون عن المدن اليونانية في جمعيات خاصة Ampyctionies لادارة المعابد الدينية بشكل مشترك . وعرفت محاولات لاقامة أحلاف عسكرية للدفاع المشترك Sympachies ( انشئ أشهرها عام 476 ق.م. وثانيها بعد حوالي قرن من الزمان عام 378 ق.م.) ولكن هذه المحاولات الأولية للتنظيم لم تعمر طويلا بسبب النزعة الأثينية للسيطرة على المدن اليونانية الأخرى . والسمة البارزة للقواعد التي عرفتها اليونان القديمة هي الطابع الديني في زمن لم يكن فيه الفصل بين القانون والأخلاق والعدل والدين بهذا الوضع الذي نعرفه اليوم . (2)
عصر الرومان:
لم يختلف الرومان كثيراً عن الاغريق في نظرتهم الى ما عداهم من الشعوب وتميزت علاقاتهم بها بسلسلة متواصلة من الحروب انطلاقاً من سياسة روما العليا في السيطرة على العالم، وضم اكبر عدد ممكن من الأقاليم الى الامبراطورية، وهذا ما حدث بالفعل، فقط اخضعت روما العالم المتمدن القديم بكامله تقريباً، وكانت معاهدات الصلح التي ابرمت مع هذه الشعوب والدول المغلوبة تمليها ارادة الغالب وتفسر وفق رغباته، أي الحق للأقوى!
أسهمت روما حين كانت تسيطر على العالم القديم اسهاما لاينكر في تطور القانون الدولي . فقد كانت روما أول "دولة" في العالم تضع مجموعة من القواعد الداخلية التي تحكم علاقتها مع الدول الأخرى . وكان هناك مثلا قانون روماني للسلام والحرب Jus Fetial . وهذا القانون ذو صبغة دينية أساسا ، اذ يعد بتطبيقه وتفسيره الى رجال الدين من الرهبان Fetiales الذين هم في نفس الوقت سفراء روما ، وبهذه الصفة كانوا يتمتعون بالحصانة الشخصية . ويختص هؤلاء بالبت في اخلال أي أمة أجنبية بالتزاماتها نحو روما ، وفي الاعتراف لها في هذه الحالة بالحق في شن حرب " عادلة "بعد القيام بمجموعة من الطقوس الشكلية . وبهذا يكون القانون الروماني قد فرق بين الحرب العادلة والحرب الظالمة .ولكن هذه التفرقة أنما تستند الى قاعدة رومانية لا الى قاعدة دولية . وبمعنى اخر لم يكن القانون الروماني للسلم والحرب قانونا دوليا بالمعنى الدقيق ، وأنما هو قانون داخلي تضعه روما ،من جانب واحد ، وتلزم نفسها به في مواجهة العالم الخارجي .
وقد قامت علاقات دولية بين روما والعالم الخارجي . وكثيرآ ما تضمنت معاهدات الصداقة Amicitia والضيافة Hospitium والتحالف Foedus التي عقدتها روما بنودا لتسوية المنازعات بالتحكيم . وكذلك تبادلت الامبراطورية الرومانية السفراء مع الممالك الأخرى واعترفت بالحصانة للسفراء الموفدين اليها .
_____________________________________
1- د. محمد سامي عبد الحميد ، أصول القانون الدولي ، الجزء الأول ، الجماعة الدولية ص.54
2- د.محمد يوسف علوان ، القانون الدولي العام المقدمة والمصادر، عمان ، دار وائل الطبعة الثالثة 2003 ص.38 وما بعدها .
وأوجدت روما مجموعة كبيرة من القواعد القانونية التي تحكم علاقات المواطنين الرومان مع الأجانب الذين تعقد دولهم معهدات صداقة مع روما . وتندرج هذه المجموعة من القواعد ضمن القانون الذي أطلق عليه الرومان أسم قانون الشعوب Jus gentium الذي لم يكن من القانون الدولي في شيئ ، وانما هو قانون روماني خاص بالمعاملات بين الرعايا الأجانب بعضهم ببعض أو بينهم وبين المواطنين الرومان . وبمعنى آخر فهو مجموعة من القواعد القانونية الداخلية التي أوجدتها روما بعد ازدهار العلاقات التجارية بينها وبين الشعوب الأخرى ، وبعد أستقطاب " المدينة الخالدة " لأعداد كبيرة من الأجانب لكي تصبح " عاصمة العالم ". وهو ينظم أنشطة الأجانب في روما ولا علاقة له بأنشطة الدول. ولكنه لا يمكن مع ذلك انكار الدور الذي لعبه قانون الشعوب على الصعيد العالمي . فهو ينطلق من فكرة أساسية مفادها لزوم وجود قانون عالمي مشترك للأنسانية . وهو يوضح من جهة أخرى أن للأجانب مجموعة من الحقوق الدنيا التي تحميها القوانين المحلية لدولة الأقامة ( حق تكوين العائلة ، الذمة المالية ، حق المتاجرة ) . (1)
هذا عن القانون الذي يحكم علاقات الرومان مع الشعوب الأجنبية . أما العلاقات بين الرعايا الرومان أنفسهم فيحكمها القانون المدني Jus civile . كما احتل القانون الطبيعي Jus naturae مكانة متميزة في القانون الروماني .
وقد تأثر الفقهاء الرومان بالفلسفة الرواقية Stoicisme التي نادت منذ القرن الثالث قبل الميلاد عبر زعيم هذه المدرسة المفكر زينون ZENON ، الذي دعا الى مدينة عالمية يكون فيها جميع البشر متساوون ، ومواطنون اخوة تجمعهم حياة واحدة ونظام واحد للاشياء على قاعدة القانون الطبيعي الذي يتسق ويتألف مع القواعد والمبادئ الاساسية للعدل والعقل ، فهم يقولون (ان لله أب لجميع الناس ، فنحن جميعآ أخوة ، ويجب علينا ألا نقول :انني أثيني وأنني روماني ،بل يجب علينا أن نقول "انني مواطن في العالم" ). (2) . وتعتبر الرواقية ان القانون الطبيعي هو فوق القوانين الوضعية وانه يسمو عليها . ولهذا نرى الفقيه الروماني المعروف شيشرون CICERON يقول بوجود قانون طبيعي أزلي ينطبق على جميع الناس و "قواعد منطق " مشتركة بين جميع البشر .
وكما كان الامر مع الرواقية لجهة تطويع القانون الطبيعي لخدمة افكرها ومعتقداتها ، اتت مرحلة الامبراطورية الرومانية لتبرر حتلالها وفرض شرعيتها على الشعوب عبر القانون الطبيعي كذلك ، وفي الواقع استلهمت قانون الشعوب Jus Gentium لهذا الغرض با عتبار قانونا عالميا من وجهة نظرها .(3) وواقعا لقد تلاشت الدول في شخصية الامبراطورية الرومانية في تلك الفترة ، وقد ساعدة هذا التلاشي ظهور المسيحية واتخاذها كديانة رسمية في القرن الرابع ، وقد سعت الكنيسة الرومانية انذاك الى التبشير بالرسالة المسيحية للعالم على مبادئ السلام بين الشعوب واقامة العلاقات التي تخدم هذه التوجهت على قاعدة الخضوع لله ،الا أن فكرة المدينة العالمية اقتصرت على العالم المسيحي ليس الا ، ولم يطل الزمن حتى انتشرت الحروب في القرون الوسطى وتبين ان حكم الشعوب بالقانون الذي فرضته الامبراطورية الرومانية بالقوة غير قادر على استيعاب مصالح الشعوب وتطلعاتها، الامر الذي ادى الى تفكك الامبراطورية الرومانية الى اقطاعيات تحكمها الامراء واصحاب السلالات العريقة في اوربا .
الصين
بعد وفاة الامبراطور شي هوانج تي أشهر أباطرة الصين ، والية ينسب سور الصين الذي تم انجازه في سنة 300 ق.م. يبلغ طوله النهائي 2250 كم ؛ ويتراوح ارتفاعة مابين 6_9 م وعرضه مابين 3_4 م وهو يعبر عن ثقة الصينيين الكاملة بالأسوار . انقضى عهد أسرة تسئن ، فخلفتها في حكم الصين أسرة هان ، وازدهرت في عهدها ،بل أصبحت أفضل نظام سياسي في العالم تمدنآ وتنظيمآ انذاك ، ثم تدهورت الأوضاع الى أن جاءت للحكم أسرة تانج ، لا سيما في عصر الامبراطور تايسونج الذي وصل الى الحكم عام 627 ميلادي. (4)
_______________________________________________
1- انظر محمد يوسف علوان .مرجع سابق ص.39
2- د.محمد حسن الأبياري . المنظمات الدولية الحديثة وفكرة الحكومة العالمية ،الهيئة المصرية العامة للكتاب 1978 ص.25
3- حول الفلسفة الرواقية :أميل برهييه ، الفلسفة الهلنسية والرواقية ، ترجمة جورج طرابيشي ، دار الطليعة للطباعة والنشر ، ج2 ،بيروت،1982 ، ص.34 وما يليها
4- ه.ج.ويلز موجز تاريخ العالم ، ترجمة د. عبد العزيز توفيق جاويد ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، الطبعة الثنية ،1999 ، ص.140
وقد قدم فلاسفة الصين تصورت جديرة بالاعتبار فيما يتعلق بالتنظيم الدولي والعلاقات الدولية ، اذ أن كونفوشيوس CONFUCIUS آمن بوجود قانون مشترك للعالم بأسره وعلى ضوء ذلك بنى نظريته في العلاقات الاجتماعية والدولية .(1) أما الفيلسوف لاوتزو Laottsu فقد دعا الى الحد من الحروب وبحث في العقوبات الدولية التي يمكن ايقاعها بالمخالفين .
أن أثرالفلسفة الصينية التقليدية _ لما تمثله الصين عالميآ _ لا ينكر ، فقد تضمنت أيضآ مدرسة الشرائع ؛ التي دعت للقوة والسلطة الشمولية ، ومدرسة الأسماء الجدلية ، التي بالغت بتعريف الأسماء ، سيما وأن بعضها ظل حيآ حتى مطلع القرن العشرين .(2)
الهند
اقدم الوثائق عن الهند يرجع تاريخها الى الفترة التي تقع ما بين 1200 _ 8000 ق.م. ، وهي تكشف عن مدينة بدائية تدل على وجود امارات صغيرة يحكمها ملوك ضعاف . بيد انه ومنذ القرن الخامس قبل الميلاد ، وصلت مدينة الهند الى مرحلة متقدمة ن وحدث تطور هام في الديانة والأفكار الفلسفية لدى البراهمة ن تجلى فيما استحدثه بوذا بالمطالبة بالغاء الطبقات ، فكان مذهبه ثورة اجتماعية على النظم القديمة .(3) ولكن أثر هذه الفلسفة لم يدم طويلآ ، لأن نظام الطبقات عاد الى الظهور _ بعد اضمحلال أثر الفلسفة البوذية – وما زال قائمآ حتى الأن في الهند .
أما قوانين مانو Lois de Manu تم وضعها حوالي 1000 قبل الميلاد ، فقد بحثت في جوانب عدة ، اذ أمر مانو بتحريم تعطيل الحقول الزراعية وقطع الاشجار في الحرب ، بل أوجب على المحارب ألا يقتل عدوآ استسلم ولا أسير حرب ، ولا عدوآ نائمآ أو أعزل ولا شخصآ مسالمآ غير محارب .... وفي المجال الدبلوماسي يقول مانو .. أن من يرفع يده في وجه السفير يتعرض للهلاك والابادة وذلك لأن السفير مصان من قبل الألهة . (4)
والحقيقة أن تاريخ الهند في مجمل التاريخ العالمي ، يعد صورة نموذجية للحياد بوجهيه السلبي والايجابي ، وهو الدور الذي أضطلعت بأدائه ايجابيآ لمدة وجيزة من الزمان ، عادت بعدها الى الحياد السلبي ، ومع ذلك ، فالهند تبقى _كما قال غوستاف لوبون : " خلاصة ناطقة لجميع أدوار التاريخ وصورة صادقة للأطوار المتأرجحة بين الهمجية الأولى والحضارة الحديثة .(5)
________________________________________
1- أنظر . د.بن عامر تونسي .مرجع سابق . ص.154 وما بعدها
2- د. عبد الغفار مكاوي ، جذور الاستبداد ، عالم المعرفة ، العدد 192 ، كانون الأول/ ديسمبر 1994 ،الكويت،ص122 .ولتفصيل أكثر في معرفة الحضارة الصينية الأولى، وما لحق بها حتى اصطدامها بالغرب ، ثم الوصول الى مرحلة الثورة وانتصارها ، أنظر ول.ديورانت ، "المدنيات المفقودة والرأي الغربي في مهد الحضارات الأول، قصة الحضارة " الجزء الرابع ، المجلد الأول ص19 وص 218 وما بعده
3- أنظر : ول ديورانت ، المرجع السابق ، الجزء الثالث من المجلد الأول "الهند وجيرانها " ص 73 وما بعدها
4- أنظر : د.بن عامر تونسي ، مرجع سابق ، ص 10_11
5- في أحوال الهند القديمة وتطورها التاريخي ، أنظر د. غوستاف لوبون ، حضارة الهند ، نقله الى العربية عادل زعتر ، الطبعة لأول ، 1948 ، ص 9 وما بعدها
ثانيا: : في العصور الوسطى 500 م.__ 1500 م.
ضاعت وحدة روما حين قسمها الامبراطور ثيودوس بين ولديه هونوريوس واركاديوس الى امبراطوريتين ( امبراطورية الشرق وامبراطورية الغرب ) . ويؤرخ لبداية القرون الوسطى عادة بسقوط الامبراطورية الغربية على يد البرابرة عام 476 م. مع ما اسفر عنه ذلك من قيام العديد من الممالك والامارات على أنقاضها . أما نهاية القرون الوسطى فيؤرح لها بسقوط الامبراطورية الشرقية على يد محمد الفاتح عام 1453 م .
بعد انحسار الحضارة والامبراطورية الرومانية سيطرت الترعة المسيحية في الغرب والاسلامية في الشرق وظهور الدويلات والوحدات السياسية ، وكذلك ظهور الاقطاع وبداية الراسمالية وتداخل عصر النهضة الأوربية بين هذه العصور والعصور الحديثة .
أصبح التجمع الغربي تحت رأيه الكنيسة الكاثوليكية وتحت رعاية البابا قائمآ ، في ظل هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وخضوع الملوك والأمراء لسلطة عليا واحدة متمثلة في البابا وفي الامبراطور :اعتمادا على نظرية " السيفين " ، التي تستند الى قول المسيج _ عليه السلام " ان لله خلق سيفين لقيادة العالم أحدهما روحي والآخر زمني - وأولهما للبابا والآخر للأباطرة " .(1)
وفي سنة 800 ميلادي ، قبل الملك شارلمان الذي توجه البابا ليون الثالث سيطرة الكنيسة والبابا حين أعاد انشاء الامبراطورية الجرمانية المقدسة " الكارولنجية " (2) التي شملت معظم البلاد الأوربية ،واعتبرها الألمان والفرنسيون توحيدآ لأوربا ، وقد بارك البابا قيامها ، ونظر اليها رجال الكنيسة على أنها الآلية المناسبة لقيام امبراطورية تشمل أوربا كلها ، سيما وان أباطرتها قد رسخوا من حمايتهم للكنيسة الكاثوليكية حتى أصبح نفوذها متغلغلآ في شؤن الحياة الأوربية بكافة نواحيها .
تأثير المسيحية:
أوجد انتشار المسيحية في اوروبا رابطة دينية قوية بين معتنقيها. كما ادى الزتبشير بمبادئها والدعوة الى التآخي والمساواة بين الشعوب والأفراد ونبذ الحروب الى بروز نمط جديد في الفكر الكوني قائم على السلام، وإلى بروز فكرة الحرب العادلة التي كانت ترمي الى تقييد اللجوء الى الحرب، وتلطيف عملياتها، فلم تعد مباحة الا عند الضرورة ولسبب عادل، وبعد استنفار الوسائل السلمية لرفع الظلم.
كذلك تمّ وضع نظامين مهمين هما «السلام الالهي» ويقضي بحياد الأماكن المقدسة، ورجال الدين، والاطفال، والعجزة، و«الهدنة الالهية» (Trève Dieu) التي تمنع الحرب في أيام محددة من الاسبوع كالسبت والاثنين وأيام الأعياد. كان لانتشار المسيحية تأثير في التوفيق بين دول اوروبا وقيام أسرة دولية مسيحية تخضع لسلطة البابا، وقد ساعد على توطيد هذه الفكرة ظهور الاسلام وتهديده بانتزاع السيادة على العالم من المسيحية.
وبلغ نفوذ الكنيسة أوجه في عهد الباب بونيفاس الثامن Boniface 1294 – 1303 م.، ثم جاءت الحروب الصليبية فتحآ جديدآ أعلى من شأن البابوية ، أثر النداء الشهير الذي أطلقه البابا أوربان الثاني من مجمع كلير مونت بباريس .(3) اذ قال فيه : " فلينطلق المسيحيون بالغرب لنجدة الشرق . فيؤدون ما أمر لله به أن يعمل "، ولكن أهم انجازات تلك الحروب أنها وحدة العالم المسيحي ، وجعلت من تلك الوحدة أمرآ مسلمآ به ، وأصبحت المشكلة هي في اقرار السيادة لروما.(4). ___________________________________
1- د. سعد عبد الفتاح عاشور ، أوربا العصور الوسطى ،الجزء الأول ، "التاريخ السياسي" الطبعة السابعة مكتبة الأنجلو المصرية ،1994 ص. 394
2- كارلس ديفز ، شارلمان ،نقله الى العربية د. السيد الباز العريني ، مكتبة النهضة المصرية، ص.167
3- أنظر ، د. بن عامر تونسي ، مرجع سابق ، ص.30_31
4- ستيفن رنيسمان ، تاريخ الحروب الصليبية الحرب الأولى وقيام مملكة القدس _ نقله الى العربية ،د.السيد الباز العريني ، دار الثقافة ،بيروت، الطبعة الأولى ، 1967 ، ص. 153 _
طلب امبراطور القسطنطينية اليكسوس كومينوس يد المعونة من البابا أربان الثاني _ لمقاومة المسلمين _ رغم القطيعة بين الكنيستين الشرقية والغربية .
ومنذ البداية كان هناك توافق بين اسقاط الأندلس وغزو المشرق ، فليس مصادفة أن يكون سقوط طليطلة سنة 1085 ، ثم يعقبه سقوط القدس في سنة 1099 ،الا أن الحروب الصليبية أنتهت فعلآ الى ارتدادها عن دار الاسلام ، وأرسل فرديناد ملك قشتالة رسالة بشرى الى البابا ، ونال حظآ عظيمآ مع شريكته ايزابيل ملكة الأرغون بان أصبحا على رأس قائمة الملوك حماة المسيحية .(1)، وأسبغ عليها البابا لقب العاهلين الكاثوليكيين ،لذلك أصبح عام 1492 _عام سقوط غرناطة _نقطة تحول هامة نحو قيام الامبراطورية الاسبانية التي لمع نجمها على يد كارلوس الخامس حفيد فرديناند ،(2) وأول خمسة ملوك حكموا بأسم آل هابسبورغ.
بعد طرد العرب من الأندلس ــ بموجب معاهدت السلام التي سلمت غرناطة – في كانون الثاني / يناير 1492 ، وفي العالم نفسه بدأت رحلات اكتشاف العالم الجديد ، اذ غادر في 13 آب (أغسطس) البحار الجنوي كريستوف كولمبس قشتالة ، ثم اكتشف الشاطئ الشرقي لذاك العالم (سان سلفادور ) في 12 تشرين الثاني ( نوفمبر ).في 12 تشرين الثاني (نوفمبر). لقد أسهمت تلك الكشوف في تغير وجه العالم القديم ، واعادت التشكيل الستراتيجي للعالم من جديد ، بان غدا ذاك العالم الجديد بعدآ ثالثآ للحضارة الأوربية . تدخلت الكنيسة لتوزيع الغنيمة بين الدول الأوربية ، وقام البابا الاسكندر السادس باصدار صكآ بابويآ لتقسيم الأراضي بين أسبانيا والبرتغال ، وقد أسس الفقه الكنسي مشروعية التدخل البابوي على اعتبار أن سكان العالم الجديد ينتمون الى عرق أدنى من الأسبان كما أنهم كفار ، مما يعطي للأسبان الحق في أحتلال أراضيهم .(3)، بينما أنكر جانب من الفقه ذلك ودعا الى ايجاد مبررآ صالحآ لدخول العالم الجديد ، اذ قال فيتو ريا "انه ليس بوسع البابا أن يعطي ما ليس له ، وليس له أن يطالب باية سيادة زمنية على العالم " (4).
وقد أباد الغزاة الأوربيون شعوبآ كاملة واقتلعوا حضارات بأسرها ، اذ قضى " كورتيز " على حضارة الآزتك Aztequs في المكسيك بين عامي 1519 _1522 ، وفعل فعله " بيزارو " حينما أباد شعوب الأنكا Incas واقتلع حضارتهم ابان غزوه بيرو .(5)، وهكذا تمكن الغرب من استيطان العالم الجديد وطمس وجود شعوبه الأصلية ، بل انه طمس حتى الاسم الحقيقي لتلك الشعوب وأصولها العرقية ، وأعطى لها لقبآ ظالمآ يوحي بالجهل والهمجية ،وساير العالم الغرب في جنايته ، حينما أقر تسمية تلك الشعوب " بالهنود الحمر ".
ادى اعتزاز البابا بسلطته الروحية، الى التدخل في شؤون الدول والملوك. واعتباره المسيحية اساساً للعلاقات الدولية، أدى الى إقصاء الدول التي لا تدين بها، مما ولّد شعوراً لدى هذه الدول بضرورة التحرر من سلطة الكنيسة، فبدأت توحد قواها الداخلية مستعينة بظهور حركة النهضة العلمية والاكتشافات الجديدة في العالم وبروز حركات الاصلاح الدينية في القرن السادس عشر. أثرت حركة الاصلاح الديني في أوروبا، فانقسمت بين مؤيد للكنيسة، ومدافع عنها، وعن مصالحها، ومعارض يعمل للاستقلال عن النفوذ الكنسي. وقد تصادم الفريقان في حرب ضروس عمت كل اوروبا، فقد أسفر الانشقاق الديني عن انقسام أوربا الى معسكرين : المعسكر البروتستانتي معسكر الاستقلال عن نفوذ الكنسي الذي أكد على علو السلطة المدنية في الدولة وأسهم بالتالي بتعزيز ووحدة هذه الأخيرة ،ومعسكر الدول الموالية للكنيسة الذي ضعفت فية الكنيسة تدريجيآ ولم يعد بمقدورها أن تكون منافسا جديا للدولة . وهكذا بدأت حرب استمرت ثلاثين عاماً، وعرفت بحرب «الثلاثين سنة» من عام 1618 كحرب دينية في مبتداها ، ثم مالبثت _ بأشراك أمم أخرى فيها انطلاقآ من عام 1635 _أن أصبحت حربآ دولية أوربية ، وانتهت بمعاهدة «وستفاليا» عام 1648، والتي شكلت اتجاهاً جديداً في العلاقات الدولية، وتأطيراً لنظرية الامن الجماعي الاوروبي، والتي استقت مبادئها من وحي الأديان وكتابات المفكرين، والفلاسفة الذين تأثروا بفلسفة اليونان المثالية خصوصاً افلاطون في كتاب «الجمهورية»، وتوماس مور في كتابه «اليوتوبيا» وغيرهما(5).
1- عادل سعيد بشتاوي ،الأندلسيون المواركة، القاهرة، 1983 ص.107
2- اذا يقول ماكيافيلي متحدثآ عن فرديناند: "أرتفع من مركز أمير صغير الى مكانة أعظم أمير في البلاد النصرانية" أنظر ماكيافيلي ، الأمير، تعريب، محمدلطفي جمعة، الطبعة الثانية نمؤسسة النوري ، دمشق ، 1990 . ص.161 _162
3- د. أحمد اسكندراني و د.محمد ناصر أبو غزالة ،محاضرات في القانون الدولي العام،المدخل والمعاهدات الدولية،دار الفجر ، الطبعة الأول ،1998 ، القاهرة ، ص62
4- كان فيتو ريا " 1480 _ 1546 " راهبآ أسبانيآ وأستاذآ لعلم أللاهوت في جامعة سلامانكا ، ويعد من الرعيل المؤسس للقانون الدولي، أنظر المرجع السابق ، ص17 لامير نيقولو مكيافللي، تعريب خيري حماد، مكتبة التحرير، بغداد الطبعة التاسعة 1988 - ص 243.يوتوبيا: هي المكان المنشود لهناء البشر، وتعني باليونانية: ليس في مكان ما. جعلها توماس مور (1478-152) عنواناً لكتابه الذي صور فيه دولة مثلى تحقق السعادة للناس، وتمحو الشرور، وهي جزيرة خيالية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ملاحظة : بقية الموضوع تجدونه في الملف المرفق
- المرفقات
- laws_deferences.doc
- نشأة وتطور النظام الدولي
- لا تتوفر على صلاحيات كافية لتحميل هذه المرفقات.
- (386 Ko) عدد مرات التنزيل 2